حماية حقوق الابداع
الجزء الثانىبقلم : د. طارق الشيخ
قلنا سلفا بأنه من الناحيه النظرية، فالإدارة الجماعية للحقوق الذهنية تقدم العديد من المزايا للمبدعين، ليس فقط بالنسبه للمؤلفين أو الملحنين أو أصحاب الحقوق المجاورة، والذين لا يكون بإمكانهم غالبا أن يستغلوا أعمالهم بشكل نافع لهم، ولكن أيضا بالنسبة للمستخدمين الذين يمكنهم علي هذا النحو أن يصلوا إلى تقديم الأعمال المصنفة بطريقه بسيطة واقتصادية نسبيا، وفي الحقيقه ما يعتبر موضع انتقاد فى الواقع ليس نظام الإدارة الجماعية فى حد ذاته، ولكن الطريقة التي يتم تنظيم وإدارة معظم جمعيات تحصيل وتوزيع الحقوق الذهنية بها، خاصة فى مجال حقوق الفنانين، والتى يبدو فيها أن أصحاب الحق الفعليين يحصلون على أقل من نصف المبالغ التي يتم تجميعها ودفعها بالفعل إلى تلك الجمعيات .
وبالتالى فإن إيلاء الاختصاص، فى تحصيل وتوزيع عوائد استغلال المصنفات المشمولة بالحماية القانونية، إلى جهات الإدارة الجماعية لا يحقق وحده الأهداف المنشودة وراء إقرار هذا الحق، بمنأى عن إقرار وإرساء أسس ومقومات واضحة يتحقق من خلالها لتلك الجهات السير على خطا ثابتة، تشمل الكيفية التى يطبق من خلالها تلك الحقوق، ومنها حق التتبع على المصنفات المشمولة بالحماية كما أشرنا سابقا.
تاريخ النضال الأهلى فى مصر: قدم المصريون تاريخا حافلا فى مختلف مناحى المعارف والفنون والحضارة والثقافة على مر العصور والقرون، بدأ ذلك منذ آلاف السنوات واستمر حتى يومنا هذا.
وحديثا... استكمل المصريون هذا العطاء والرقى من خلال التحول إلى الأخذ بالأنظمة الحديثة فى مجالات القانون والقضاء والعمل الأهلى والتطوعى. إن حركة الجمعيات الأهلية في مصر حركة قديمة ترجع إلى أوائل القرن الماضى، حيث قامت التجمعات المدنية بإقامة المنشآت الضرورية للرعاية الاجتماعية والصحية في بادئ الأمر، وبعد ذلك تطورت اهتمامات هذه التجمعات غير الحكومية إلى تنمية وتطوير المجتمع، وذلك من خلال الاهتمام بالقطاعات الخدمية المتعلقة برفع مستوى أفراد المجتمع، مثل خدمات التعليم بالجامعات والمعاهد والمدارس بجميع مستوياتها .
ولقد ارتقى الجهد الأهلى المدنى في مصر إلى درجة الاهتمام بالأنشطة الاقتصادية ودعم الاقتصاد المصرى، وهو ما حدث على سبيل المثال من خلال اهتمام الجمعيات الأهلية بإنشاء معاهد متخصصة في التدريب على القيام بالمهن والأعمال الحرفية، ودعم تأسيس المنشآت الاقتصادية المهتمة بدعم الخدمات الفنية التى تحتاجها الأنشطة الاقتصادية.
وفي عام 1964 تم وضع تشريع متخصص لتنظيم المجتمع المدني تحت اسم قانون "تنظيم الجمعيات الأهلية والاتحادات" الذى أخضع الجمعيات الأهلية لوزارة الشئون الاجتماعية، وبالنظر إلى أن هذا التشريع قد تم إعداده في وقت سيطرت فيه الدولة على معظم أدوات الإنتاج والتوزيع، فإنه قد اتسم بتضييق نشاط عمل الجمعيات الأهلية وإخضاعها لرقابة مشددة في جميع مراحل وجودها بدءا من الموافقة على إنشائها، ثم أثناء نشاطها وحياتها، وانتهاءا بانحلالها وزوالها.
وبالرغم من أن هذا التشدد كان يمكن أن يعوق عمل الجهات غير الحكومية في مصر إلا أن الجهود الأهلية تواصلت وتخطت عقبات كثيرة وضعها أمامها هذا التشريع وظروف تطبيقه، حتى وصل عدد الجمعيات الأهلية العاملة حتى الآن فى مصر إلى نحو عشرين ألف جمعية أهلية.
ولأن المناخ الذى وضع فيه ذلك التشريع يختلف تماما عن المناخ الاقتصادي والاجتماعي والسياسي الذي ساد مصر فى بدايات القرن الواحد والعشرين، فقد تخطت التجمعات الأهلية الكثير من القيود والعقبات التى وضعها ذلك التشريع، بل إن جهة الإدارة ذاتها لم تتشدد فى فترات كثيرة في تطبيق بعض بنوده، وغضت الطرف عن بعضها الآخر، خاصة عندما كان يتعارض ذلك مع إنشاء الجمعيات بغير مبرر مقبول في بعض الأحيان، ومن ذلك التطور أيضا ما اتجهت إليه التجمعات الأهلية في فترة سابقة من إنشاء شركات مدنية لا تستهدف الربح وتسجيلها في الشهر العقارى، بهدف التحرر من القيود التي يفرضها تشريع الجمعيات الأهلية، وذلك قبل صدور التشريع الأخير الخاص بالجمعيات الأهلية والمنظمات والاتحادات الأهلية رقم 84 لسنة 2002 فى شأن الجمعيات والمؤسسات الأهلية، والذى زادت فيه رغم ذلك قيود إنشاء وعمل الجمعيات، رغم أن حركة التاريخ كانت تشيرلضرورة التبسيط والتحرير.
كذلك، وبهدف توفير التمويل المستمر والذى يحقق استقلالية هذه التجمعات المدنية، فإن النقاش يدور حاليا حول إحياء نظام وقف الأموال الأهلى الذى عرفته مصر لفترات طويلة، وساهم في تمويل المشروعات الخيرية والأهلية على مدى قرون من الزمان، قبل أن يلغيه المشرع المصرى فى سنة 1952، ومبقيا فقط على نظام الوقف الخيرى.
وباستقراء عمل إحدى أهم الجمعيات العاملة في مجال حماية الملكية الصناعية والفكرية نجد أنها جمعية أهلية قد تأسست وفقا لقانون الجمعيات الأهلية وأشهرت بمحافظة الجيزة. وقد حرصت الجمعية في ضوء الأهداف التي أنشئت من أجلها، أن تضم في عضويتها من يتوفر لديهم القدرة الفنية والرغبة الحقيقية في تحقيق أهدافها، كذلك فقد حرصت تلك الجمعية على أن يتم اختيار أعضائها ممثِلين لكافة القطاعات المهتمة بتوفير الحماية للملكية الصناعية والفكرية، وتوفير السبل المناسبة لصدور وتطبيق التشريعات المتعلقة بتلك الحماية .
جمعية المؤلفين والملحنين المصرية: وضعت اللبنة الأولى لجمعية المؤلفين والملحنين والناشرين فى مصر على يد كل من الموسيقار محمد عبدالوهاب والشاعر مصطفى عبدالرحمن، حيث تم يوم 21 ديسمبر 1945 انعقاد أول جمعية عمومية غير رسمية للمؤلفين والملحنين والناشرين المصريين..... وهكذا تأسست جمعية المؤلفين والملحنين، والتي أشهرت في السنة التالية 1946 بوزارة الشؤون الاجتماعية تحت رقم 373 لسنة 1946، واكتسبت بذلك الصفة الرسمية، فأصبح الأول رئيسا لمجلس إدارتها بينما أصبح الثانى أول سكرتير عام للجمعية، ويعد من وقتها يوم تأسيس جمعية المؤلفين والملحنين عيدا للملكية الفكرية في مصر.
وعلى هذا النحو تأسست فى مصر جمعية تسمى "جمعية المؤلفين والملحنين والناشرين" ويشار إليها عادة باسم "ساسيرو S.A.C.E.R.A.U" وهى الأحرف الأولى لاسم الجمعية باللغة الفرنسية، وقد حدد النظام الأساسى للجمعية الأحكام الخاصة باختصاصاتها، وذلك باعتبارها صاحبة الحق فى إصدار التراخيص وتحصيل عائد الاستغلال، والتى نص عليها لاحقا قانون حماية حق المؤلف، لكونها خلفا له -للمؤلف- ويمتنع العضو عن مباشرة هذه الحقوق بمقتضى عقد التفويض المبرم بينهما.
وقد بدأت الجمعية عملها بصياغة مذكرة تطالب بإقرار وحماية حقوق المؤلفين والمبدعين فى كافة المجالات الفكرية، وقد صاغها بعض المحامين الذين كانوا أعضاءا فى مجلس الإدارة، وقد تحدثت المذكرة عن الدور الخطير الذى يؤديه الكاتب والمؤلف لوطنه وبنى وطنه، وعن رعاية كل الدول لأصحاب الخلق الأدبى والعلمى والفنى، وإصدار التشريعات التى تحميهم من ناهبى الأفكار وسالبى الابتكار، وتحدثت المذكرة كذلك عن الاتفاقيات الدولية فى هذا الشأن ومنها اتفاقية "برن"، وعن الدول التى سبقتنا بالانضمام إليها، رغم أننا نسبقها حضاريا، كما تم تشكيل وفد من مجلس إدارة الجمعية لمقابلة العلامة السنهورى، الذى كان وزيرا للمعارف العمومية وقتها، وذلك لعرض الموضوع ومطالب الحماية المشروعة.
وبعد هذا التاريخ جاهدت هذه الجمعية سياسيا وقانونيا من أجل إصدار قانون لحماية حقوق المؤلف والمبدع والمبتكر فى مجالات العلوم والآداب والفنون، وفى سنة 1950 رفض مجلس النواب إصدار مشروع القانون الذى تقدمت به الحكومة لحماية حق المؤلف، ولكن بعد جهود متواصلة صدر أول قانون لحماية حق المؤلف فى مصر سنة 1954.
ومازالت جمعية المؤلفين والملحنين والناشرين المصرية تقوم بعملها فى حماية حقوق التأليف والإبداع فى مصر منذ سنة 1945 وحتى اليوم، من خلال تحصيل رسوم الأداء العلنى وإصدار تراخيص إعادة النسخ، وتطبيق الحق فى التتبع، وتوزيع الحقوق المالية على مستحقيها، وتمثيل أعضائها أمام القضاء للدفاع عن حقوقهم الابتكارية، وكذلك من خلال التعاون وإبرام عقود التبادل مع الجمعيات المماثلة فى أغلب دول العالم، وخاصة جمعية المؤلفين والملحنين وناشرى الموسيقى الفرنسية.
ولتحقيق حماية كاملة وفعالة للمؤلف وللمبتكر بشكل عام، خاصة فيما يتعلق بالحق المالى، تناولنا فى جزئى المقال طرق حماية المبتكر بوسائل الإدارة الجماعية للحقوق، ونتناول فى مقالات قادمة نوع آخر من الوسائل التى تضْمن حماية الحق المالى للمبتكر، ألا وهى وسائل الحماية القانونية والقضائية، حيث نتناول فيها الطرق التى كفلها القانون لحماية الحق المالى الخاص بالمبتكر، وكذلك الدعاوى القضائية التى يستطيع أن يلجأ إليها عند تعرض حقوقه لخطر الاعتداء، بما يؤدى إلى خسارته لتلك الحقوق إذا تقاعس عن حمايتها بتلك الوسائل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق