
الحب اللى كان
بقلم : دسوقي عبداللهلم يكن ذلك اليوم كبقية الأيام، ولم أكن أعلم أن القدر يخبئ شيئا، خلف جدران الغيب وحوائطه، لا أعلمه ولا أدركه، فقط كان لزاما منى الإمتثال لما قضاه القدر لحظتها، والصمت التام، لما يجرى، أمام عينى.
لحظات مرت كأنها دهرا كاملا، مشوار حياة، رحلة من العذاب والكفاح والجهد، والعرق، وفى النهاية، قال القدر قراره، وقضى بحكمه، فيمن حكم، دقائق معدودة، مرت امام عينى، لم اكن اصدق فيها ما أرى.. لولا.. أننى رأيت، وياليتنى.. رأيت، فيمن وضعت الجنة تحت أقدامها، وهى تتساقط دموعها الساخنة على خديها، حزنا على شبابها الذى ضاع منها فى غفلة من الزمن.. وهى لا تصدق نفسها.. أنها اصبحت على تلك الهيئة وهى التى كانت أجمل بنات جيلها.. تتوكأ اليوم على عصا غليظة.. تعينها على الإنتقال ولو يسيرا.. بين ردهات دار المسنين التى تقطنها.
بينما كانت دموعها تتساقط.. كانت تتوسل إلى الله تعالى أن يرحمها.. وترجو لقاءه.. لتستريح من عناء الدنيا.. وغدر الزمان.. فقد لاقت ما لاقت.. من أجل فلذة أكبادها.. لكنهم اليوم ليسوا معها، هى بمفردها وحيدة بلا ماوى.. بلا أهل ، بلا أحباب ، بلا أصدقاء ، بلا شريك ، الجميع تركوها وحدها تواجه عقبات القدر التى أنهكتها حتى أنها أصبحت لا تقدر على فعل شئ.. فقط.. أصبح كل أمنيتها فى الحياة وغاية مدركاتها.. هى أن تموت بسلام وفى أمان... الرحيل عن الدنيا.. أصبح كل همها.
لمحتها على بعد، كنت أستقل سيارتى، كانت تفترش الأرض، أمام أحد مستشفيات محافظة الشرقية، ترتدى جلبابا أسود عفا عليه الزمن، تلوح بعصاة غليظة لكل سيارة تمر، لكن لا.. أحدا يجيب ، العرق يتصبب من جبينها.. تمسك فى يدها كيسا كبيرا داخله أدوية كثيرة.. قررت الوقوف بجانبها.. فتحت لها باب السيارة، ألقت بنفسها على الكرسى، أمطرتنى بوابل من الأدعية، سألتها لماذا أنتى وحدك، وأنتى لا تستطيعين الحركة، وكيف تعودين بهذا الشكل، قالت انا وحدى منذ زمن طويل.. أما أولادى الثلاثة فقد ماتوا وهم لايزالون أحياء.. لا أحد يسال عنى أو حتى يزورنى فى دار المسنين التى أقطنها.
قالت العجوز التى حفر الزمن بصماته على وجهها.. وترك أثره على جسدها النحيل المريض.. لقد كنت أجمل بنات جيلى.. كنت مطمعا للجميع.. زوجنى والدى لشاب من قريتنا متدين.. كان يخشى على.. من نسمات الهواء.. عشت معه أجمل أيام حياتى.. وأنجبت ثلاثة أولاد.. لكن تاتى الرياح بما لا تشتهى السفن.. مات زوجى فى حادث سيارة.. حزنت عليه حزنا كبيرا.. توشحت بالسواد العمر كله.. أثرت على نفسى إلا أن أربى أولادى الصغار.. تركت الدنيا وتفرغت لهم.. عملت فى الأراضى لدى الفلاحين.. كى يتعلموا.. ويرتدوا أجمل الثياب.. كنت أجوع ليشبعوا هم.. وكنت أسهر الليل بطوله ليناموا..
وبعدما كبروا وانتهوا من التعليم.. تزوجوا الثلاثة.. وبدأت الأمور تتغير وتتبدل.. أصبح كل همهم الثلاثة إرضاء زوجاتهم.. وإهمالى.. بدأ المرض يتسلل إلى جسدى.. تعب قلبى.. ولزمت المستشفى أسابيع طويلة لم يزورنى فيها أحد منهم.
وأردفت العجوز بينما كانت تمسح دموعها التى نزلت على خديها كشلال... تصور يا ابنى... عمرهم ما عيدوا عليا.. ولا فى رمضان سألوا عنى.. استمر بى الحال على هذا النحو حتى ذلك اليوم الذى دخلت فيه زوجة إبنى على.. بينما كنت ساجدة لله فى صلاتى.. وضربتنى ضربا مبرحا.. من بعدها تركت البيت إلى دار المسنين.. وهناك استراح قلبى.. فقط أذهب إلى المستشفى كل أول شهر.. أستلم جرعة علاجى.. وأتقاضى معاش التكافل.. لكنى لم أعد اتمنى الدنيا.. يا ابنى.
خلعت العجوز غطاء رأسها.. فبدا شعرها الأبيض يرصع رأسها.. رفعت يديها إلى أعلى وهى تدعو الله عز وجل أن يرحمها مما هى فيه .. وأن يكتب القدر نهايتها .. فهى لم تعد تريد العيش أكثر من ذلك.. فالموت بالنسبة لها رحمة.. وستر من عناء الدنيا.
ولم تنس العجوز أن تدعو لأولادها بأن يلقوا نفس المصير على أيدي أولادهم.. تضرعت إلى السماء وهى تبكى بحرقة شديدة..
أكتب تلك القصة اليوم بينما أتذكر الحب الذى كان سائدا يوما بيننا.. لكنه توارى خجلا.. وحل محله الكراهية والحقد والشر بكل أنواعه.. الحب الذى اختفى من الأسر المصرية.. الحب الذى اختفى فى العائلات المصرية.. الحب الذى اختفى فى القرية المصرية التى كانت يوما رمزا للحب والأصالة.. الرجولة والشهامة.. الحب الذى إجتمعنا عليه دهرا طويلا.. وتربينا عليه أجيالا متعاقبه.. الحب الذى تبدد.. ولم يعد أحدا يطيق أحد.. الحلم الذى ذهب ولم يعد.. وحل محله كابوسا مزعجا..
إنتهت الرحلة الحزينة أمام دار المسنين بأحد مراكز الشرقية.. استدارت ببطء شديد.. ضغطت عى زر تسجيل السيارة فإذا بصوت مطربة الجيل وإبنة حلب بسوريا (( ميادة الحناوى )) يشدو من بعيد.
كان يا ما كان..
الحب مالى بيتنا ومدفينا الحنان
زارنا الزمان
سرق منا فرحتنا والراحة والأمان
حبيبى كان هنا مالى الدنيا عليا بالحب والهنا
حبيبى يا أنا يا أغلى من عنيه
نسيت مين أنا
أنا الحب اللى كان
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق