
زمن الحب الجميل
بقلم : دسوقي عبداللهكانت الامور تسير فى طبيعتها كالعادة فى هذا اليوم الرمضانى الحار فى مثل هذه الأوقات من السنة ... ولكن الشئ الغير عادى ... واللافت للنظر ..كان عندما ناديت على ابنتى الحبوبة (( جنى )) فأجابتنى بوجهها المبتسم كعادتها ... (( شو بدك )) .
نزلت تلك الكلمتين على مسامعى كالمطرقة التى أصمت أذناى ... أين تعلمت الصغيرة ذات الاثنى عشرة عاما تلك الكلمة ... ومن أين جاءت بها .. ودار بيننا حوارا طويلا عرفت منه أنها سمعت تلك الكلمات من المسلسلات العربية والهندية والتركية التى تسمعها ليل نهار .
أعادتنى تلك الكلمات إلى الحقيقة المرة والتى نعيشها تلك الأيام مع الفن المصرى والذى تراجعت قيمته فى محيطه العربى والعالمى .. بشكل كبير .. وعن قيمة الفن فى المجتمع .. والذى يشكل الوجدان القومى للأمم والشعوب المختلفة .. ويحدد عاداتها وتقاليدها المتعارف عليها لسنوات طوال .
الفن المصرى والدراما المصرية التى تربعت على عرش الدراما العربية دهرا طويلا .. لا ينافسها أحد .. لكنه حال كل شئ فى مصر ... فى انحسار وتدنى .. لا يقبله أحد خاصة من جيل من الفنانيين عايش وتعايش مع عصر ذهبى كان للفن المصرى والسنما المصرية دورا كبيرا فى التوعية وتشكيل الرؤى وعكس المشكلات الإجتماعية والإقتصادية للمجتمع المصرى .
بدأت السينما المصرية فى الظهور فى أوائل العشرينات من القرن الماضى ... ومعه ظهرت العديد من الفرق المسرحية والفنية المتعددة على أيدي .. عدد من النجوم العظماء فى ذلك العهد .. مثل فرقة على الكسار المسرحية والتى تعد مدرسة فنية فى حد ذاتها أخرجت لنا العديد من نجوم الفن .. المتفردين مثل الفنان الكوميدى الرائع اسماعيل يسين والذى إستقل فيما بعد عن الفنان على الكسار.. وشكل فرقته الفنية التى عرفت بإسمه سنوات طوال ..
فى تلك الفترة أيضا كانت قد ظهرت فرقة نجيب الريحانى .. مع العديد من نجوم الفن وقتها .. وبدأ يلمع نجم يوسف وهبى الممثل المسرحى الموهوب ... وبدأت السينما المصرية مرحلة مهمة فى تاريخها .. بكثير من الأعمال المصرية المؤثرة ...على يد مجموعة من نجوم الفن الأصيل الذين لا يزالون أحياءا بيننا نسمعهم فى كل يوم رغم رحيلهم الطويل عنا .
عايشت السينما المصرية وقتها الكثير من الأحداث التاريخية والمشكلات الإجتماعية والإقتصادية للمجتمع المصرى والتى جسدتها بحق وعبرت عنها بشل جلى ..
وكانت سببا كبيرا فى إنتشار اللهجة المصرية إلى كل ربوع الوطن العربى .. والذين يعرفون أحياء القاهرة وشوارعها من السينما المصرية .. وأصبحت القاهرة وجهة كل فنان أو مطرب عربى ينشد النجاح والشهرة .
إنها السينما التى تربعت على عرش السينما فى الوطن العربى لعقود طويلة بلا منافس .. إنها السينما التى جسد فنانوها أعمالا خالدة لا تمحى من التاريخ... فمن منا يستطيع أن ينسى رصيف نمرة خمسة .. والبوسطجى ..واللص والكلاب .. صراع فى الوادى ..جعلونى مجرما .. زائر الفجر .. درب المهابيل .. ليل وقضبان .. ثرثرة فوق النيل ..صراع الأبطال .. الطوق والاسورة ... على من نطلق الرصاص .. وشئ من الخوف للأديب الكبير ثروت أباظة .
وكلمات مشهورة ... فى كل تلك الافلام الكبيرة لايمكن للمرء أن ينساها .. فمن منا يستطيع أن ينسى إفيهات الكوميدى العالمى إسماعيل يسين أو عبدالفتاح القصرى .. وحسن فايق معجزة السينما المصرية ... وأشهركلمة فى السينما المصرية والعربية .. للرائع ذكى رستم (( روح يا شيخ الله يعمر بيتك )) ... وزواج عتريس من فؤادة باطل للراحل يحيى شاهين .
ولذلك لم يكن مستغربا ومع نهاية القرن الماضى .. وفى إحصائية عالمية لأهم عشر فنانين فى العالم .. أن ياتى إثنين منهم .. من وطننا الغالى مصر .. الفنان الراحل ذكى رستم والمخرج العالمى يوسف شاهين .. الذى نعاه قصر الإليزيه يوم وفاته ... ومتتعددة المواهب هدى سلطان ..
إنه جيل من أجمل الاجيال فى تاريخ الفن المصرى .. إنه جيل العمالقة بحق .. جيل العالمى عمر الشريف .. ووحش الشاشة فريد شوقى .. وسيدة الشاشة العربية .. فاتن حمامة .. إنه جيل ثروت أباظة ونجيب محفوظ ..ويوسف إدريس .. وطه حسين .
إنه جيل عظيم ساهم فى رفعة الوطن المصرى وتقدمه ... جيل الأصالة والذوق الرفيع والكلمات الخلوقة المهذبة التى تعبرعن واقع عظيم لدولة تضرب بجذورها فى أعماق التاريخ وعلمت البشرية كلها .. إنه جيل الشرف والأخلاق الرفيعة ..
جيل الرقى والأعمال العظيمة الهادفة .. لا جيل العرى والإنحطاط والإغتصاب والمخدرات والقتل والدم .. والبلطجة .. والتى نراها فى مسلسلات رمضان هذه الأيام .
إنهم حفنة من رجال عظماء أحبوا عملهم وأتقنوه إلى درجات الإبداع والموهبة الفنية الخلاقة والتى أضافت الكثير والكثير ... انكروا ذاتهم وكان همهم الأكبر عملهم ووطنهم , ولذلك لم يكن مدهشا أن نرى كوكب الشرق أم كلثوم تتبرع بدخلها من كل حفلاتها داخل مصر وخارجها .. بعد نكسة 67 لتسليح الجيش المصرى .. لا أن تتباهى وتتفاخر فى المؤتمرات والمنتديات العامة بأنها أعلى دخل فى مصر بأكملها وبسياراته الفارهة مثل الفنان الشاب محمد رمضان والتى تتجاوز الواحدة منها 7 ملايين .
إنه جيل احب بعضهم بعضا .. فى الأوقات الصعبة تجدونهم .. ففى مكالمة هاتفية مع فنانة كبيرة منذ أيام ..كشفت أنها لم تعد ترى زملائها وزميلاتها من الفنانيين ... وأن هاتفها لم يتلق أية مكالمة من وسطها الفنى منذ سنوات عديدة .
إنه جيل العندليب .. الذى كان يتكفل بعلاج كل زملاءه الفنانيين فى المستشفيات الخاصة على نفقته الخاصة .. إنه جيل عبر عن نفسه باسهاماته الناجحة فى تشكيل الوجدان المصرى لعقود طويلة .. وتنمية الوعى القومى بالأخطار المحدقة بالدولة المصرية ..
إنه جيل (( فى يوم فى شهر فى سنة ... تهدى الجراح وتنام وعمر جرحى أنا أطول من الأيام ))
إنه زمن الحب الجميل .. فى كل شئ .
كان بحق معبرا عما يجيش فى أعماق الوطن .. من أحزان وأفراح .. فنرى مطربة الجيل ميادة الحناوى ... إبنة حلب .. ترفض أن تترك سوريا .. وترفض الغناء وبلدها يعيش دمارا وخرابا .
ونرى معه الزعيم والصديق العزيز عادل إمام ... فى اوائل عام 2012 وإبان عهد الاخوان .. فى مهرجان بغداد للسينما يتسلم جائزته .. بوجه عابس .. حزين .. قائلا أنه لا يستطيع أن يضحك ووطنه يبكى ... مترجيا الجميع أن يدعو لوطنه مصر أن تخرج من محنتها .
إنه زمن لن يتكرر مرة ثانية ... إفتقدناه وباعدت بيننا المسافات .. إنه بحق زمن الحب الجميل .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق