
بناء الإنسان والتنمية المستدامة
يخطئ من يولي إهتماما للتنمية الزراعية والصناعية والتجارية والإقتصادية فقط ويهمل الإهتمام بالتنمية البشرية التي أصبحت مؤشراً قوياً على تحضر الشعوب أو تخلفها.بناء الانسان قبل بناء كل شيء..
من الأهمية بمكان أن ندرك قيمة تلك العبارة والتدبر في نتائجها، فعندما أراد الصينيون القدامى أن يعيشوا في أمان، بنوا سور الصين العظيم واعتقدوا بأنه لايوجد من يستطيع تسلقه لشدة ارتفاعه، ولكن خلال المئة عام الأولى بعد بناء السور تعرضت الصين للغزو ثلاث مرات، وفى كل مرة لم تكن جحافل العدو البرية فى حاجة إلى إختراق السور أو تسلقه، بل كانوا في كل مرة يدفعون للحارس الرشوة ثم يدخلون عبر الباب.
لقد انشغل الصينيون ببناء السور ونسوا بناء الحارس، ولعل تلك القصة أكبر دليل علي أن بناء الإنسان يأتي قبل بناء كل شيء، حتى لا يبقى الحال على حاله.
بناء الإنسان قبل بناء الأوطان..
لابد أن يعي حكامنا عمق هذه المقولة ويعملوا عليها ويستفيدوا من تجارب الدول التي عملت بهذا المنهج الفطري والديني والأخلاقي الذي أدي بها إلي التقدم والوصول إلي التنمية الشاملة والمستدامة، ويعد هذا منطق إنساني وأخلاقي عادل، بل هو سياسي وإجتماعي وإقتصادي من الدرجة الإولي، فالإنسان هو العمود الفقري الذي يتأسس عليه بناء الحضارة، وهو الركيزة الأساسية في عمارة الأرض، والبذرة الأولى لتشكيل وصياغة مشروع إنسان متكامل يبدأ من خلال تعميق وترسيخ القيم والمبادئ الإنسانية والحضارية.
وبالتأكيد فإن هناك عوامل هامة لبناء الأمم أهمها التنمية البشرية الشاملة القادرة على خلق مواطن صالح يعمل على تقدم وطنه، والديمقراطية الحقة والمساواة أمام القانون المحفز الرئيسي لخلق ثقافة الرضا والثقة في المؤسسات، والتنمية التشاركية هي التي تجعل الجميع ينخرط في عملية البناء.
ولا شك أن العالم اليوم بحاجة إلى إنسان ذو مواصفات خلاقة تتكامل في شخصيته قيم الحق والعدل والسلام، التي تنير عقله وروحه وقلبه، ليكون قادرا على المساهمة في بناء وإنتاج حياة مليئة بالخير، ويسعى في مناكب الأرض معمرا لها.
عندما أعدت بناء الانسان.. أعدت بناء العالم..
نشر الكاتب البرازيلي الشهير "باولو كويلو" قصة قصيرة يقول فيها: "ﻛﺎﻥ ﺍلأﺏ ﻳﺤﺎﻭﻝ أﻥ ﻳﻘﺮأ ﺍﻟﺠﺮﻳﺪة، ﻟﻜﻦ ﺍﺑﻨﻪ ﺍﻟصغير ﻟﻢ ﻳﺘﻮﻗﻒ ﻋﻦ ﻣﻀﺎﻳﻘﺘﻪ، ﻭﺣﻴﻦ ﺗﻌﺐ الأﺏ ﻣﻦ ﺍﺑﻨﻪ ﻗﺎﻡ بإخراج ورقة من ﺍﻟﺼﺤﻴﻔﺔ ﻛﺎﻧﺖ ﺗﺤﺘﻮﻱ على ﺧﺮﻳﻄﺔ ﺍﻟﻌﺎﻟﻢ، ﻭﻣﺰﻗﻬﺎ إﻟﻰ أﺟﺰﺍﺀ ﺻﻐﻴﺮة ﻭﻗﺪﻣﻬﺎ إﻟﻰ ﺍﺑﻨﻪ ﻭﻃﻠﺐ ﻣﻨﻪ إﻋﺎﺩﺓ ﺗﺠﻤﻴﻊ ﺍﻟﺨﺮﻳﻄﺔ ﺛﻢ ﻋﺎﺩ ﻟﻘﺮﺍﺀﺓ ﺻﺤﻴﻔﺘﻪ ﻇﺎناً أﻧﻪ ﺳﻴﺒﻘى ﺍﻟﻄﻔﻞ ﻣﺸﻐﻮلاً ﺑﻘﻴﺔ ﺍﻟﻴﻮﻡ، إﻻ أﻧﻪ ﻟﻢ ﺗﻤﺮ ﺧﻤﺲ ﻋﺸﺮ ﺩﻗﻴﻘﺔ ﺣﺘﻰ ﻋﺎﺩ ﺍﻟﻄﻔﻞ إﻟﻴﻪ ﻭﻗﺪ أﻋﺎﺩ ﺗﺮﺗﻴﺐ ﺍﻟﺨﺮﻳﻄﺔ !"
ﻓﺘﺴﺎءل ﺍلأﺏ ﻣﺬﻫﻮلاً:
ﻫﻞ ﻛﺎﻧﺖ أﻣﻚ ﺗﻌﻠﻤﻚ ﺍﻟﺠﻐﺮﺍﻓﻴﺎ؟
فرﺩ ﺍﻟﻄﻔﻞ ﻗﺎئلاً:
"ﻻ.. ﻟﻜﻦ ﻛﺎﻧﺖ ﻫﻨﺎﻙ ﺻﻮﺭﺓ إﻧﺴﺎﻥ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻮﺟﻪ ﺍلآﺧﺮ ﻣﻦ ﺍﻟﻮﺭﻗﺔ، ﻭﻋﻨﺪﻣﺎ أﻋﺪﺕ ﺑﻨﺎﺀ ﺍﻻﻧﺴﺎﻥ أﻋﺪﺕ ﺑﻨﺎﺀ ﺍﻟﻌﺎﻟﻢ أيضاً"
كانت عبارة عفوية - ولكنها كانت عبارة جميلة وذات معني عميق.
كانت عبارة عفوية - ولكنها كانت عبارة جميلة وذات معني عميق.
الأهم هو بناء الإنسان..
فالإنسان هو المحرك والدينمو والفاعل، وهو رأس الحربة في صنع التغيير وتحريك الأحداث، والتأسيس لحضارة إنسانية ترتقي به وتحفظ له كرامته، وعندما يتعطل بناء القاعدة الفكرية الصلبة، والبنية الثقافية الراسخة بالمفاهيم الواضحة، سيكون ذلك مانعا يحول دون تحقيق التقدم الإنساني المأمول، كما أن سيادة عقلية الاستحواذ والاستبداد، وتغييب إرادة العمل الجماعي التي تؤمن بمفاهيم التنوع والتعدد، وتحتضن الفرد وتؤهله ليكون عنصرا فاعلا ضمن البيئة الاجتماعية التي يعيش فيها، هي أيضا موانع أخرى تعيق عملية التطور، لينتهي بعدها حال التقدم الإنساني إلى التراجع والإخفاق.
نجحت الحضارة المادية بإمتيازٍ في الجانب العمراني والتقني وأرست قواعدها، بينما رسبت رسوباً مدوياً في بناء الإنسان بمنظومةٍ رائعةٍ من مكارم الأخلاق، فمات فيهم الإنسان واستيقظت فيهم الشهوات، ولكي نتخطي ذلك لابد من المصالحة بين شقي العالم المادي والروحي، وتغليب الجانب القيمي السلوكي من الإنسان، حيث أن تلك القيم هي التي ستؤدي حتما إلى شيوع الرحمة والمودة، وتقبل الآخر، مما يؤدي لتخفيف جزء من معاناة البشر.
والتاريخ الإنساني خير شاهد علي حضارات سادت و أخرى تخلفت، ومازال هذا الصراع والسباق قائما إلى عصرنا هذا، الذي يوصف بأنه عصر ثورة الإتصالات والمعلومات في العلوم والتكنولوجيا والإعلام.
ومؤخرا هناك اتفاق دولي علي أهمية إدراج قيم الحرية والسلام والأمن وإحترام حقوق الإنسان في إطار التنمية الجديد الذي سيبني على الأهداف الإنمائية، مؤكدين أن ثمة حاجة إلى المجتمعات التي يسود فيها العدل والديمقراطية بغية إنجاز التنمية المستدامة.
ومن أبرز أهداف التنمية المستدامة التي اتفق عليها المجتمع الدولي في مؤتمر الأمم المتحدة للتنمية المستدامة - ريو +20 عام 2012:
- تشجيع وجود المجتمعات السلمية الشاملة للجميع تحقيقا للتنمية المستدامة.
- توفير إمكانية اللجوء إلى القضاء أمام الجميع، والقيام على جميع المستويات ببناء مؤسسات فعالة خاضعة للمساءلة.
- الحد بدرجة كبيرة من جميع أشكال العنف وما يتصل به من معدلات الوفيات في كل مكان.
- إنهاء إساءة المعاملة والاستغلال والإتجار بالبشر وجميع أشكال العنف ضد الأطفال وتعذيبهم.
- تعزيز سيادة القانون على الصعيدين الوطني والدولي وضمان تكافؤ فرص وصول الجميع إلى العدالة.
- الحد بقدر كبير من التدفقات غير المشروعة للأموال والأسلحة.
- تعزيز استرداد الأصول المسروقة وإعادتها ومكافحة جميع أشكال الجريمة المنظمة، بحلول عام 2030.
- الحد بدرجة كبيرة من الفساد والرشوة بجميع أشكالهما.
- إنشاء مؤسسات فعالة وشفافة وخاضعة للمساءلة على جميع المستويات.
- ضمان اتخاذ القرارات على نحو مستجيب للاحتياجات وشامل للجميع وتشاركي وتمثيلي على جميع المستويات.
- توسيع وتعزيز مشاركة البلدان النامية في مؤسسات الحوكمة العالمية.
- توفير هوية قانونية للجميع، بما في ذلك تسجيل المواليد بحلول عام 2030.
- كفالة وصول الجمهور إلى المعلومات وحماية الحريات الأساسية، وفقاً للتشريعات الوطنية والاتفاقات الدولية.
- تعزيز المؤسسات الوطنية ذات الصلة، بوسائل منها التعاون الدولي، سعياً لبناء القدرات على جميع المستويات، ولا سيما في البلدان النامية، لمنع العنف ومكافحة الإرهاب والجريمة.
- تعزيز القوانين والسياسات غير التمييزية لتحقيق التنمية المستدامة.
وهنا يجب علينا إلقاء الضوء علي أهم وأبرز التجارب التي طبقت مبدأ بناء الإنسان والتنمية المستدامة والإستغلال الأمثل للقدرات البشرية وحققت نجاحا كبيرا لتتصدر المشهد العالمي، بل وتصبح نموذجا يحتذي به في تحقيق العدالة الإجتماعية والإزدهار الإقتصادي والإستدامة البيئية، وتحتل التنمية البشرية بها موقع الصدارة في سلم أولويات استراتيجيات التنمية الاقتصادية والاجتماعية، ومنها علي سبيل المثال: الإمارات، اليابان, كوريا الجنوبية، البرازيل، الهند، سنغافورة، الصين، ألمانيا وجنوب أفريقيا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق